أزتاك العربي- نشر موقع (عثمانلي) مقالة بعنوان (تانير أكتشام .. المؤرخ المنفي يوثق جرائم الإبادة العثمانلية للأرمن)، حيث جاء أن رفض الحكومات التركية المتتالية، الاعتراف بالجريمة التاريخية لأجدادهم في حق الأرمن وإبادتهم في 1915، والتمسك بالباطل والدفاع عنه، يعني أن المسؤولين في أنقرة حالياً، بزعامة رجب إردوغان، قاب قوسين أو أدنى من ارتكاب إبادة جديدة، في حق الأكراد هذه المرة، ربما لن تقل في آثارها البعيدة، أو في حجم ضحاياها عن جريمة الأسلاف.
هذه الفرضية، مثلت خلاصة ما توصل إليه المؤرخ وعالم الاجتماع التركي الألماني، تانير أكشام، الذي قضى النصف الأول من حياته يسارياً ثائراً ضد سياسات تركيا الطورانية، النافية للآخر، والمضطهدة له، قبل أن يتفرغ في نصف حياته الثاني، لقضية إبادة الأرمن درساً وبحثاً وتنقيباً.
تانير أكشام، الذي دفع ثمن اختياره معارضة الدولة التركية مرتين، الأولى في شبابه حين حكم عليه بالسجن، والثانية بعد أن أصبح أكاديمياً بارزاً، وصار هدفاً رئيساً للقوميين المتطرفين في تركيا، الذين لا ينفكون عن اتهامه بالردة، والخيانة العظمى للأمة التركية، ووصل الأمر بهم إلى تهديده العلني بالقتل.
سجين الضمير
ألتوغ تانير أكتشام، ولد في أرداخان شمال شرق تركيا يوم 23 أكتوبر 1953، درس الاقتصاد بجامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة، حيث اعتنق الإيديولوجية الماركسية، وانضم إلى المنظمات اليسارية، التي كانت في أوج فعالياتها بـتركيا خلال تلك الفترة.
أكشام، كان ناشطاً يسارياً بارزاً، لذا أصبح منذ سنوات دراسته الجامعية هدفًا للأجهزة الأمنية، التي كانت تنظر إلى اليساريين بصفتهم الخطر الأكبر الذي يتهدد أنقرة، اُعتقل أكشام للمرة الأولى 1974، بسبب اشتراكه في مظاهرات ضد غزو شمال قبرص، ثم قبض عليه مرة أخرى عام 1975، بسبب توزيعه ولصقه منشورات في شوارع أنقرة.
وبعد تخرجه بمدة قصيرة، اُعتقل أكشام لمرة ثالثة في 9 مارس 1976، على خلفية اشتراكه في إصدار جريدة طلابية تناقش مشكلات الأقلية الكردية في تركيا، وكانت “الطريق الثوري”، هي لسان حال منظمة الشباب الثورية الماركسية التركية، التي حظر نشاطها من قبل الجيش التركي خلال سبعينيات القرن الماضي.
حكم على أكشام بالحبس لمدة 9 سنوات في بواكير عام 1977، وكان لا يزال في الثانية والعشرين من عمره، وقد اعتبرته منظمة العفو الدولية في ذلك الوقت “سجيناً للضمير”. أكشام ظل محبوساً لمدة عام، قبل أن يتمكن في 12 مارس 1977 من الفرار من سجن أنقرة المركزي، وسافر إلى ألمانيا التي منحته اللجوء السياسي في 1978، ثم حصل على الجنسية الألمانية، وبدأ في ألمانيا علاقة أكشام الطويلة بإبادة الأرمن، التي لم تتوقف حتى اليوم.
العمل الأكاديمي
أكشام، حصل في عام 1988، على درجة الدكتوراة من جامعة هانوفر، على أطروحته “القومية التركية والإبادة الأرمنية .. حول خلفيات المحاكمات العسكرية في إسطنبول بين عامي 1919 و1922”. دفاع أكشام عن العرقية الكردية أثناء وجوده في تركيا، دفعه إلى دراسة إبادة الأرمن التي جرت على أيدي السلطات العثمانية في 1915، وخلفت نحو مليون ونصف المليون قتيل.
فكما واجهت تركيا العثمانية، مطالب الأرمن بالحكم الذاتي والاستقلال بالمذابح والتطهير العرقي، بدت تركيا القومية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، على وشك اتخاذ قرار بإبادة الأكراد في جنوب شرق الأناضول، ذات المناطق التي واجه فيها الأرمن الذبح من قبل.
دراسة أكشام لإبادة الأرمن، كانت في حقيقتها دراسة لعقل الدولة التركية التي آمنت في أعماقها، ومنذ سيطر عليها أعضاء جمعية الاتحاد والترقي 1908، بالتفوق البيولوجي للعرق التركي، وما استتبع ذلك، من إيمانات برفض الاعتراف بوجود الآخر داخل حدود تركيا، وضرورة التخلص الجماعي من الآخر إن رفض أفراده الانصهار القسري في “الأمة التركية” المتخيلة.
أكشام، وفي ذات العام الذي حصل فيه على درجة الدكتوراة، عُين باحثاً في معهد هامبورغ للأبحاث الاجتماعية، واستمر به حتى 1995، عندما سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وعمل أستاذاً زائرًا للتاريخ بجامعة مينيسوتا، ثم انضم إلى مركز عائلة شتراسلر لدراسات الهولوكوست والتطهير العرقي.
تانير أكشام، ألف 10 كتب عن الإبادة الأرمنية، إضافة إلى عدة مقالات منشورة في الدوريات العلمية المعتمدة. وكان منهج الرجل في دراساته الجزئية والكلية تلك، هو السبب في أن يكتسب سمعته اليوم كباحث رائد في حوادث التطهير العرقي للأرمن على مستوى العالم.
الوثائق العثمانية
أكشام، اعتبر أن دراسة إبادة الأرمن لا يمكن أن تتم بصورة كاملة إلا عبر الوثائق العثمانية التي تبادلتها اللجنة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي مع ولاة المدن التي شهدت نفي الأرمن والتخلص منهم في شرق الأناضول، لأن تلك الوثائق يمكنها أن تصبح دليلاً دامغاً على وقوع الإبادة في مواجهة النفي التركي للواقعة، وهو النفي الذي لم يتوقف يوماً منذ تأسيس الجمهورية وحتى اليوم.
منهج أكشام الطموح، واجه مصاعب تتعلق بمدى توافر الوثائق، لأن أعضاء حكومة الاتحاد والترقي التي انهزمت في الحرب العظمى، على رأسهم طلعت باشا الصدر الأعظم، أعدموا آلاف الوثائق التي تدينهم في قضية الأرمن قبل وقوعها في أيدي البريطانيين، الذين أقاموا بعد احتلالهم إسطنبول محاكمات عسكرية شهيرة لجنرالات الأتراك المتورطين في الإبادة.
وحتى الوثائق التي نجت من إعدام كاتبيها، فُرض عليها التعتيم الكامل من الجمهورية التركية، والتي بمجرد تأسيسها الأرشيف العثماني الحديث، قررت أن تغلق كل الأبواب أمام الباحثين للاطلاع على تلك الوثائق.
آمال أكشام، وغيره من باحثي الإبادة الأرمنية، تعلقت بوثائق خارج المجموعات التي تفرض عليها أنقرة ستاراً حديديًا، وكان من حسن الطالع، أن الثمانينيات شهدت ظهور المفكرة الخاصة بطلعت باشا ضمن ميراث أرملته، حيث دون الباشا بالأرقام الدقيقة حجم الأرمن الذين تقرر نفيهم من شرق الأناضول إلى صحراء دير الزور السورية في عام 1915.
حصر طلعت باشا، الذي كُتب في عام 1917، توقف عند الرقم 1,200,000 أرمني، وما دام هذا العدد لم يصل منه إلى معسكرات النفي أحياء، إلا النزر اليسير جداً، باعتراف الأتراك أنفسهم، فإن هذا معناه أن المختفين قد تم قتلهم في طريق النفي الطويل والمهلك.
اضطهاد حكومي
مذكرات طلعت باشا، المعروفة بالكتاب الأسود، كانت إحدى المصادر التي استخدمها أكشام في دراساته القائمة على الوثائق العثمانية، حيث كان جمعه بين تلك المذكرات، والمكتشفات الجديدة من الرسائل والتلغرامات بين قادة إسطنبول وولاة شرق الأناضول، وكذلك قادة الجيش العثماني، السبب في منح أعماله ثقلاً علمياً في الأوساط الأكاديمية، كما أنها من جهة أخرى، جلبت على رأسه المتاعب المتوقعة من تركيا، التي بدأت تلتفت بقوة إلى أبحاث أكشام منذ الألفية الجديدة.
أكشام، نشر في 2006، كتابه (الفعل المخجل، الإبادة الأرمنية وسؤال المسؤولية التركية)، وبعد ذيوعه، وتعدد المراجعات العلمية له دولياً، قامت جماعات قومية متطرفة في تركيا بتهديد أكشام علانية بالقتل في نوفمبر من ذات العام.
وهو موقف شبيه بما تعرض له الأديب التركي الحاصل على جائزة نوبل أورهان باموق، الذي أحرقت كتبه على أيدي ذات المتطرفين، وهدد كذلك بالتصفية الجسدية، فقط لأنه دعا تركيا إلى مواجهة نفسها بالجرم التاريخي الذي ارتكبه الأجداد ضد عرقية كانت يوماً ما تشارك الأتراك في الأناضول.
مناصبة العداء لأكشام في تركيا، انتقلت في 2007 من مستوى العناصر المتطرفة على الأرض إلى المستوى الحكومي، بعدما وجهت الحكومة في يناير من ذلك العام، تهمة “إهانة الهوية التركية” إلى أكشام، على خلفية حوار أجراه بتاريخ 6 أكتوبر 2006 مع جريدة “أجوس” الأرمنية التركية، التي تصدر في إسطنبول، ووصف خلاله ما وقع للأرمن بأنه “إبادة جماعية”.
لفظ “الإبادة الجماعية”، مُحرم استخدامه في تركيا رسمياً منذ اتخذت الجمعية التاريخية التركية في عام 1983 قرارها بعدم اعتبار أحداث 1915 “حادث إبادة”، إنما حرب أهلية خاضها الأتراك ضد المسلحين الأرمن من عملاء روسيا القيصرية في شرق الأناضول، وخلفت قدراً غير معلوم من الضحايا.
منذ ذلك التاريخ، أصبح كل من يستخدم مصطلح الإبادة، واقعاً تحت طائلة المادة 301 من قانون العقوبات الجنائية التركي، المعروف بقانون “إهانة الهوية التركية”، وهو قانون ينظر إلى كل رأي لا يتفق مع الرؤية الرسمية التركية في المسائل التاريخية، أو في قضية الأقليات، باعتباره رأياً يستحق صاحبه الاعتقال والمحاكمة، بتهمة إهانة الهوية المقدسة للأمة التركية.
التهمة التي واجهها تانير أكشام، واجهها كذلك رئيس تحرير صحيفة “أغوس” الأرمني هرانت دينك، الذي واجه تهمة “إهانة الأمة التركية” ثلاث مرات كاملة بسبب إصراره على استخدام توصيف الإبادة على صفحات الجريدة. دينك كان أقل حظاً من أكشام، إذ لم يقتصر الأمر على تهديده بالقتل، بل اغتيل فعلياً في إسطنبول يناير 2007، عندما أطلق عليه شاب تركي من القوميين المتطرفين رصاصة في الشارع.
إسطنبول، شهدت جنازة ضخمة لهرانت دينك، حضرها عشرات الآلاف في عام 2007، وأبدى تانير أكشام شجاعة كبيرة عندما أصر على حضور الجنازة رغم تهديدات القتل التي كانت تأتيه بصورة متزايدة.
وفي الشهور التالية، ظهر على شبكة الإنترنت موقع دشنه قوميون أتراك اسمه Tall armenian tale، يكذب مسألة إبادة الأرمن بصورة كاملة، ويعتبرها لعبة أممية كبيرة ضد تركيا، وقد اتهم القائمون على الموقع أكشام بالردة، وقاموا بنشر بياناته الشخصية لتسهيل عملية تصفيته، تلك التطورات دفعت الحكومات الغربية إلى مطالبة تركيا بحماية أكشام، وكان أكثر الناشطين في ذلك الأمر هو الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي.
دعوات اغتيال أكشام، خفتت بعد التدخل الغربي، أو ربما لرغبة تركيا في ألا تزيد النار المشتعلة ضدها خارجياً منذ حادثة اغتيال دينك، ورغم ذلك، فإن أكشام ظل مستهدفاً، وشهد عام 2007 اقتحام مجموعات من القوميين الأتراك قاعة كان يحاضر فيها أكشام حول إبادة الأرمن في الخارج، وأخذوا يوجهون ضده صافرات الاستهجان.
“متى اتخذ قرار إبادة الأرمن؟!”
في السنوات التالية على عاصفة 2007، أكمل أكشام مؤلفاته حول إبادة الأرمن، بذات المنهج القديم الذي يعتمد الوثائق العثمانية مصدراً رئيساً لأبحاثه، فنشر في 2012، كتابه “جريمة الشبان الأتراك ضد الإنسانية: الإبادة الأرمنية والتطهير العرقي في الإمبراطورية العثمانية، منشورات جامعة برينستون”، وفي 2018، نشر دراسة بعنوان “أوامر القتل: تلغرامات طلعت باشا والإبادة الأرمنية”.
تانير أكشام، نشر في يوليو 2019، ورقة علمية في مجلة أبحاث الإبادة، بعنوان “متى اتخذ قرار إبادة الأرمن؟”، وتحتوي خطابين لبهاء الدين شاكر، أحد أبرز أعضاء الاتحاد والترقي، ومؤسس اللجنة المركزية للحزب بتاريخ 3 مارس و 7 أبريل 1915، يأمر خلالهما صراحة بالقضاء على سائر الأرمن وعدم ترك أي منهم حياً.
الوثائق المكتوبة بخط اليد، التي نشرها للمرة الأولى الصحافي الأرمني آرام أندونيان في 1921، اعتبرها أكشام دليلاً قاطعاً على أمرين، الأول أن قرار الإبادة لم يكن فكرة اللجنة المركزية، إنما فكرة الولاة الأتراك في مدن بتليس وأرضروم ووان، حيث التجمعات الأرمنية، حيث كان رأي الولاة هو ضرورة التخلص من الأرمن بأي ثمن أو وسيلة، قبل أن يصل الروس إلى شرق الأناضول، واستجابت اللجنة المركزية لرأي أولئك الولاة وتبنوه رسمياً.
الأمر الثاني، أن الإبادة بدأت منذ ديسمبر 1914، وليس كما هو شائع في أبريل 2015، فالرسائل تؤكد أن حملات عسكرية ممنهجة تحركت ضد القرى الأرمنية وقامت في بعض الحالات بإعدام كافة الذكور الذين تزيد أعمارهم على عشرة أعوام، وأشرفت ميليشيات التشكيلات المخصوصة، أول جهاز استخباراتي في تاريخ تركيا، بتنفيذ تلك العمليات الوحشية.
بحث أكشام الجديد، لاقى ذيوعاً كبيراً في الأوساط الدولية، بسبب اعتماده على وثائق لم تعالج بحثياً بهذا العمق من قبل، الصحافي البريطاني الكبير روبرت فيسك، استخدم ذلك البحث للتدليل على أسبقية الأتراك إلى استخدام سلاح الإبادة الجماعية، قبل “هولوكوست” اليهود الذي ارتكبته ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
أكشام، تمسك برأيه الأول الذي دفعه قبل عقود إلى دراسة إبادة الأرمن، هو أن الأهمية الحقيقية في اعتراف تركيا بجريمتها التاريخية، يكمن في أن ذلك الاعتراف سيكون دليلاً على صدق نواياها، وتعديل سياساتها ضد الأقلية الكردية، التي تواجه منذ تأسيس الجمهورية التركية، حملات ممنهجة لطمس الهوية، انقلبت إلى حرب عسكرية وتضييق أمني خلال العقود الأربعة الماضية.
فبدلا من أن يكون الأكراد اليوم “مشكلة” بالنسبة للحكومة التركية، مثلما كان الأرمن “مشكلة” للسلطات العثمانية، فإن الواجب على الساسة الأتراك اليوم التعلم من أخطاء الماضي، واللجوء للاعتراف بالآخر وقبوله، بديلاً من الضغط بتسرع على زر الإبادة، والتطهير العرقي، والقتل على أساس الهوية.
المصادر :1 – البروفيسور تانير أكشام يكشف النقاب عن أدلة جديدة حول إبادة الأرمن
The post تانير أكتشام .. المؤرخ المنفي يوثق جرائم الإبادة العثمانية للأرمن appeared first on ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية.